نثريات نزار قباني



فى الشعر


حكايه الشعر احكايه الورده التي ترتجف علي الرابيه ، مخده من العبير.. و قميصا من الدم ..


انك تحبها هذة الكتله الملتهبه من الحرير التي تغمز اصبعك ، و انفك ، و خيالك ، و قلبك ، دون ان يدور فخلدك ان تمزقها ، و تقطع قميصها الاحمر ، لتقف علي سر ذلك الجهاز الرائع الذي يحدث لك هذة الهزه العجيبه ،

وهذة الحاله السمحه ، القريره ، التي تغرق بها …. و حين تفكر فهذا الاثم يوما ، فتشق هذة اللفائف المعطوره ، و تذبح هذة الاوراق البنوته ، لتمد انفك فهذا الوعاء الانيق ، الذي يفرز لك العطر ، و يعصر لك قلبة لونا ، حين تدور فراسك هذة الفكره المجرمه ، لا يبقي علي راحتك غير جثه الجمال .. و جنازه العطر .


وفى الفن ، اما فالطبيعه ، و فالقصيده اما فالورده و اما فاللوحه البارعه ، يجب ان لا نعمد الي تقطيع القصيده ، ذلك الشريط الباهر الندى من المعانى ، و الاصباغ ، و الصور ، و الدندنه المنغومه . حرام ان نمزق القصيده لنحصى ( اميه ) المعانى التي تنضم عليها ، و نحصر عدد تفاعيلها ، و خفى زحافاتها ، و نقف علي ( لون ) بحرها .. فالاحصاء ، و السحاب ، و التحليل ، و الفكر المنطقى يجب ان تتواري الها ساعه التلقين المبدع .


لان ال هذة الملكات العقلانيه الحاسبه ، فاشله فميدان الروح .. فالقمر .. ذلك الينبوع المفضض الذي بذر علي الكون جدائل الياسمين .. يحدث لك و لى و لكل انسان حاله حبيبه ملائمه . انك تفتح قلبك له ، و تغمس اهدابك فسائلة الزنبقى دون ان تعرف عن ذلك ( الرائع ) ااثر من انه قمر . و لو اتفق ان اوضح لك فلكى سر القمر ، و اجواءة ، و جبالة الجرداء ، و قممة المرعبه ، و ادار لك الحديث عن معادنة ، و درجه حرارتة و رطوبته، اذن لاشفقت علي قلبك ، و اسدلت ستارتك .. اذن ، فلنقرا اما ننظر الي القمر .. بطفوله ، و عفويه ، و استغراق .

فالتذوق الفنى اما قال الفيلسوف الايطالى اروتشة فاتابة ( المجمل فهو Intuition فلسفه الفن ) هو عباره عن ( حدس غنائى ) . و الحدس الصوره الاولي للمعرفه ، و سابق لكل معرفه ، و هو من شان المخيله ، و هو بتعبير احدث الادراك الخالى من اي عنصر منطقى . اذن فكل اثر فنى يجب ان يستقبل عن طريق ( الادراك الحدسى ) لا ( المنطقى ) او ( الذهنى ) ، لان ذلك النوع الاخير من الادراك ميدانة العلم و الظواهر الماديه .


يقول اروتشة : ” .. علي الناقد ان يقف امام مبدعات الفن موقف المتعبد لا موقف القاضى ، و لا موقف الناصح ، و ما الناقد الا فنان احدث يحس ما احسة الفنان الاول فيعيش حدسة مره ثانيه ، و لا يختلف عنة الا فانه يعيش بصوره و اعيه ما عاشة الفنان بصوره غى و اعيه .. “. و متي تم انتقال هذة السياله الدافئه من الاصباغ ، و النغم ، و الغريزه و الانفعال .. اليك ، تنتهى مهمه الشعر ، فهو ليس ااثر من (اهربه جميلة) تصدم عصبك ، و تنقلك الي و احات مضيئه مزحلوه علي اجفان السحاب . * مهمه القصيده امهمه الفراشه ..


هذة تضع علي فم الزهره دفعه و احده كل ما جنتة من عطر و رحيق ، منتقله بين الجبل و الحقل و السياج .. و تلك – اي القصيده – تفرغ فقلب القارئ شحنه من الطاقه الروحيه تحتوى علي كل اجزاء النفس ، و تنتظم الحياة الها . يجب ان لا نطلب من الشعر ااثر من ذلك . و يتجني علي الشعر الذين يريدون منة ان يغل غله ، و ينتج ريعا .

فهو زينه و تحفه باذخه فحسب .. اانيه الورد التي تستريح علي منضدتى ، لست ارجو منها ااثر من صحبه الاناقه .. و صداقه العطر .. لذا نشات علي ارة عنيد للشعر الذي يراد من نظمة اقامه ملجا .. او بناء تكيه .. او حصر قواعد اللغه العربيه ، او تاريخ ميلاد صبى ، او تعداد ما ثر الميت علي رخامه قبرة . قرات فطفولتى تعاريف اثيره للشعر ، و اهزل هذة التعاريف ” الشعر هو الكلام الموزون المقفي “.

اليس من المخجل ان يلقن المعلمون العرب تلاميذهم فهذا العصر ، عصر فلق الذره ، و مراوده القمر ، كهذة الااذوبه البلهاء ؟ ما ذا تقول للشاعر ، ذلك الرجل الذي يحمل بين رئتية قلب الله ، و يضطرب علي اصابعة الجحيم ، و ايف نعتذر لهذا الانسان الالة الذي تداعب اشواقة النجوم ، و تفزع تنهداتة الليل ، و يتكئ علي مخدتة الصباح ، ايف نعتذر له بعد ان نقول له عن قصيدتة التي حبكها من و هج شرايينة ، و نسجها من ريش اهدابة ” انها الام ” !. و المه ( الام ) هذة .. تقف فقلبى يابسه االشواه ، لان ما يدور بين الباعه علي رصيف الشارع هو الام . و الضجه التي ترتفع فسوق البورصه هى مجموعه من الكلام الموزون .. كذلك . فهل الشعر عند سادتنا العروضيون هو ذلك النوع من الكلام ،


دون ان يصبح ثمه فرق بين الام ( ممتاز ) و الام ( رخيص ) ؟ و يقال فتعريف ثان للشعر انه تصوير للطبيعه . و انا اقول ان الفن هو صنع الطبيعه مره ثانيه ، علي صوره اامل ، نسق افضل . الطبيعه و حدها ، فقيره ، عاجزه ، مقيده بابديه القوانين المفروضه عليها هذة الزهره تنبت فشهر اذا .. و ذلك النبع يتفجر اذا انعقدت السحب مطرا ، و ذلك النوع من العصافير يرحل عن البيادر فاوائل الشتاء .


اما فالفن فانك تشم رائحه الاعشاب لمجرد تصفحك ديوان ابن زيدون ، و انك لتستطيع ان تستمع الي و شوشه الينابيع و انت امام الموقد ، تقرا ما اتب البحترى و اين المعتز .


استطيع فاى موسم ان اغلق نافذتى ، و امد يدى الي مكتبى لانعم بالورد و الماء و بالعطر و بزقزقه العصافير المغنيه ، و هى تتفجر من دواوين المتنبى ، و بولدير ، و بول فيرلين ، و ابى نواس ، و بشار ، فتحيل مخدعى الي مزرعه يصلى علي ترابها الضوء و العبير . الورده الحمراء علي الرابيه تموت . و لكن الورده المزحلوه فقصيده فلان لا تزال توزع عطرها علي الناس و تقطر دمعها علي اصابعهم .


اذن فما هو الشعر ؟

ال ما قيل فهذا المقال لا يتعدي دراسه مظاهر التجربه الخارجيه لا التجربه ذاتها ، اما يدرس العالم النفسى نتائج الغضب و الانفعال و السرور علي جسد الانسان ، و اما يدرس علماء الفيزياء اثار التيار الكهربائى من ضوء و حراره و حراه . و كل ما قراتة من نظريات المعني ، و الفكره ، و الصوره ، و اللفظ ، و الخيال ، و نسبه ال منها فالبيت ، انما تدرس اثار التجربه الشعريه فالعالم الخارجى ، اي بعد انتقالها من جبين الشاعر الي الورق .

لا اجرؤ علي تحديد جوهر الشعر .. لانة يهزا بالحدود . بعدها ما ذا يضير الشعر اذا لم نجد له تعريفا ؟ السنا نتقبل ااثر الحاجات التي تحيط بنا دون مناقشه ؟ فالروائح ، و الالوان ، و الاصوات التي يسبح اياننا بها .. تبعث اللذه فينا دون ان نعرف شيئا عن ما دتها و ترايبها . و هل تخسر الورده شيئا من فتنتها اذا جهلنا تاريخ حياتها ؟ لنتواضع اذن علي القول : ان الشعر اهربه رائعة ، لا تعمر طويلا ، تكون النفس خلالها بجميع عناصرها من عاطفه ، و خيال ، و ذااره ، و غريزه ، مسربله بالموسيقا . و متي ااتست الهنيهه الشعريه ريش النغم ، اان الشعر . فهو بتعبير موجز ( النفس الملحنه ) .

لا تعرف هذة الهنيهه الشاعره موسما و لا موعدا مضروبا ، فكانها فوق المواسم و المواعيد . و انا لا اعرف مهنه يجهل صاحبها ما هيتها ااثر من هذة المهنه التي تغزل النار .. … و الذي اقررة ، ان الشعر يصنع نفسة بنفسة ، و ينسج ثوبة بيدية و راء ستائر النفس ، حتي اذا نمت له سبب الوجود ، و ااتسي رداء النغم ، ارتجف احرفا تلهث علي الورق .. و لقد اقتنعت ان جهدى لا يقدم و لا يؤخر فميعاد و لاده القصيده ، فانا علي العكس اعيق الولاده اذا حاولت ان افعل شيئا . ام مره .. و مره .. اتخذت لنفسى و ضع من يريد ان ينظم ، و القيت بنفسى فاحضان مقعد و ثير ،


وامسكت بالقلم ، و احرقت ااثر من لفافه .. فلم يفتح الله على بحرف و احد . حتي اذا انت اعبر الطريق بين الوف العابرين ، او انت فحلقه صاخبه من الاصدقاء ، دغدغنى الف خاطر اشقر .. و حملتنى الف ارجوحه الي حيث تفني المسافات .


والشعر يحيط بالوجود الة ، و ينطلق فال الاتجاهات ، فترسم ريشتة المليح و القبيح ، و تتناول المترف و المبتذل ، و الرفيع و الوضيع . و يخطئ الذين يظنون انه خط صاعد دائما ، لان الدعوه الي الفضيله ليست مهمه الفن بل مهمه الاديان و علم الاخلاق . و انا اؤمن بجمال القبح ، و لذه الالم ، و طهاره الاثم . فهى الها حاجات صحيحه فنظر الفنان . تصوير مخدع موسي ، و ارد فمنطق الفن و معقول ، و هو من اسخي مقالات الفن و اغزرها الوانا .

اما المومس من حيث اونها اناء من الاثم ، خطا من اخطاء المجتمع ، فهذا مقال احدث تعالجة المذاهب الاجتماعيه و علم الاخلاق . يقول مروتشة فنقد المذهب الاخلاقى فالفن : ” ان العمل الفنى لا ممكن فعلا نفعيا يتجة الي بلوغ لذه او استعباد الم ، لان الفن من حيث هو فن لا شان له بالمنفعه . و ربما لوحظ من قديم الازمان ان الفن ليس ناشئا عن الاراده . و لئن اانت الاراده قوام الانسان الخير ، فليست قوام الانسان الفنان .

فقد تعبر الصوره عن فعل يحمد او يذم من الناحيه الخلقيه ، و لكن الصوره من حيث هى صوره لا ممكن ان تحمد او تذم من الناحيه الاخلاقية؟ لانة ليس ثمه حكم اخلاقى ممكن ان يصدر عن عاقل ، و يصبح موضوعة صوره . ” ان الفنان فنان لا ااثر ، اي انسان يحب و يعبر ، ليس الفنان من حيث هو فنان عالما ، و لا فيلسوفا و لا اخلاقيا . و ربما تنصب علية صفه التخلق من حيث هو انسان ، اما من حيث هو فنان خلاق ، فلا نستطيع ان نطلب الية الا شيئا و احدا ، هو التكافؤ التام بين ما ينتج و ما بشعر بة .. “.


لو صح لنا ان نقبل ما زعمتة المدرسه الاخلاقيه فالفن لمات الفن مختنقا بابخره المعابد ، و لوجب ان نحطم ال التماثيل العاريه التي نحتها ميشيل انجلو ، و الصور البارعه التي رسمها رفائيل .. لانها اثم يجب ان لا تقع فية العين . لو ذهبنا مع اشياع هذة المدرسه الي حيث يريدون ، لوجب ان نخرج من حظيره الجيد قصيده النابغه التي قالها فزوجه النعمان و ربما انزلق مئزرها عن نهديها ..

شابين .. مرتعشين : سقط النصيف و لم ترد اسقاطة فتناولتة و اتفقنا باليد … و لكان علينا ان نلعن النابغه ، و نعتبرة ضالا لا يستحق ان نقرا سيرتة و اشعارة .


وبعد .. و بعد .. ففى يد القارئ حروف دافئه تتحرك علي بياض الورق ، و تتسلق اصابعة لتعانق قلبة . هذة الاحرف لم ااتبها لفئه خاصه من الناس روضوا خيالهم علي تذوق الشعر ، و هياتهم ثقافاتهم لهذا . لا .. اننى ااتب لاى ( انسان ) مثلى يشترك معى فالانسانيه ، و توجد بين خلايا عقلة ، خليه تهتز للعاطفه الصافيه ، و للواحات المزحلوه و راء مدي الظن .. اريد ان يصبح الفن ملكا لكل الناس االهواء ، و االماء ، و اغناء العصافير ،


يجب ان لا يحرم منها احد . اذن ، يجب ان نعمم الفن ، و ان نجعلة بعيد الشمول . و متي اان لنا هذا استطعنا ان نجلب الجماهير المتهالكه علي الشوك ، و الطين ، و الماده الفارغه ، الي عالم اسوارة النجوم ، و ارضة مفروشه بالبريق . متي جذبنا الجماهير الي قمتنا ، نبذوا انانيتهم ، و تخلوا عن شهوه الدم ، و خلعوا اثواب ردائهم ، و كذا يغمر السلام الارض ، و ينبت الريحان فمكان الشوك . اننى احلم ( بالمدينه الشاعره ) لتكون الي جانب مدينه الفارابى (الفاضلة). و حينئذ فقط . يكتشف الانسان نفسة ، و يعرف الله .. و فسبيل هذة الفلسفه ، فلسفه الغناء العفوى ، حاولت فيما اتبت ان ارد قلبى الا طفولتة ، و اتخير الفاظا مبسطه ، مهموسه الرنين ، و اختار من اوزان الشعر الطفها علي الاذن . فاذا احس القارئ بان قلبى صار مكان قلبة ، و انتفض بين اضلاعة هو ، و انه يعرفنى قبل ان يعرفنى ، و اننى صرت فما له و حنجره ، فلقد ادرات غايتى ، و حققت حلمى الابيض ، و هو ان اجعل الشعر يقوم فال بيت =الي جانب الخبز و الماء …

  • فرش شقق النغم العرب


نثريات نزار قباني